فصل: تفسير الآية رقم (49)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

العاصف الشديدة يقال‏:‏ عصفت الريح‏.‏ قال الشاعر‏:‏

حتى إذا عصفت ريح مزعزعة *** فيها قطار ورعد صوته زجل

وأعصف الريح‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولهت عليه كل معصفة *** هو جاء ليس للبهارير

وقال أبو تمام‏:‏

إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت *** عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

الموج‏:‏ ما ارتفع من الماء عند هبوب الهواء، سمى موجاً لاضطرابه‏.‏

‏{‏هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك جرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كلّ مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكون من الشاكرين‏}‏‏:‏ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته‏.‏ وكان قبل ذلك قد ذكر نحواً من هذا في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مس الإنسان الضرّ‏}‏ الآية‏.‏ وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ودعواه أنه شفيعه عند الله، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشرافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم‏.‏ وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، وأبو العالية، وزيد بن علي، وأبو جعفر، وعبد الله بن جبير، وأبو عبد الرحمن، وشيبة، وابن عامر‏:‏ ينشركم من النشر والبث‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً‏:‏ ينشركم من الإنشار وهو الإحياء، وهي قراءة عبد الله‏.‏ وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار‏.‏ وقرأ باقي السبعة والجمهور‏:‏ يسيركم من التسيير‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هو تضعيف مبالغة، لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول‏:‏ سرت الرجل وسيرته، ومنه قول الهذلي‏:‏

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها *** فأول راض سنة من يسيرها

قال ابن عطية‏:‏ وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول‏:‏ سرت الطريق انتهى‏.‏ وما ذكره أبو علي لا يتعين، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشئاً عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل‏.‏ وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول‏:‏ سرت الطريق، فهذا لا يجوز عند الجمهور، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد، فلا يصل إليه الفعل غيره‏.‏

دخلت عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل‏.‏ وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في‏.‏ وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص، فيصل إليه الفعل بغير وساطة في، وهو زعم مردود في النحو‏.‏

ومعنى يسيركم‏:‏ يجعلكم تسيرون، والسير معروف، وفي قوله‏:‏ والبحر دلالة على جواز ركوب البحر‏.‏ ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه حالة الرخاء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال‏:‏ يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظن للهلاك، والدعاء للانجاء انتهى‏.‏ وهو حسن، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء‏:‏ في الفلكي بزيادة ياء النسب، وخرج ذلك على زيادتها، كما زادوها في الصفة في نحو‏:‏ أحمرّيّ وزواريّ، وفي العلم كقول الصلتان‏:‏ أنا الصلتاني الذي قد علمتم‏.‏ وعلى إرادة النسب مراداً به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفرداً وجمعاً، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك‏.‏ وهو التفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة‏.‏ وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري‏:‏ المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى‏.‏ والذي يظهر والله أعلم أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله‏:‏ هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر‏.‏ ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أنْ الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لايكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ بهم خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قوله‏:‏ كنتم في الفلك، هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى‏.‏

فكأنه قدر مفرداً غائباً يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه‏}‏ أي، أو كذي ظلمات، فعاد الضمير غائباً على اسم غائب، فلا يكون ذلك من باب الالتفات‏.‏ والباء في بهم وبريح قال العكبري‏:‏ تتعلق الباءان بجرين انتهى‏.‏ والذي يظهر أن الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو‏:‏ مررت بزيد‏.‏ وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب، فاختلف المدلول في الباءين، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد، ويجوز أن تكون الباء للحال أي‏:‏ وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتتعلق بمحذوف كما تقول‏:‏ جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها‏.‏ وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله‏:‏ وجرين بهم، ويحتمل أن يكون حالاً أي‏:‏ وقد فرحوا بها‏.‏ كما احتمل قوله‏:‏ وجرين أن يكون معطوفاً على كنتم، وأن يكون حالاً‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ جاءتها ريح عاصف، هو جواب إذا‏.‏ والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك، لأنه هو المحدث عنه في قوله‏:‏ وجرين بهم، وقاله مقاتل‏.‏ وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء، وبدأ به الزمخشري‏.‏ ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ جاءتهم، ومعنى من كل من مكان من أمكنة الموج‏.‏ والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين‏.‏ وقيل‏:‏ معناها التيقن، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ حيط بهم ثلاثياً والجملة من قوله‏:‏ دعوا الله قال أبو البقاء‏:‏ هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره‏:‏ لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى، وهو كلام لا يتحصل منه شيء‏.‏ وقال الطبري‏:‏ جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف، وجواب قوله‏:‏ وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى‏.‏ وهو مخالف للظاهر، لأنّ قوله‏:‏ وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا، لأنه معطوف على كنتم، لكنه محتمل‏.‏ كما تقول‏:‏ إذا زارك فلان فأكرمه، وجاءك خالد فأحسن إليه، وكأن أداة الشرط مذكورة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك، فهو ملتبس به انتهى‏.‏ وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخّرج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول‏:‏ هو جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فما كان حالهم إذ ذاك‏؟‏ فقيل‏:‏ دعوا الله مخلصين له الدين انتهى‏.‏ ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها، قال معناه‏:‏ ابن عباس وابن زيد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مخلصين لا إخلاص إيمان، لكنْ لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله، فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري انتهى‏.‏ والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف، وذلك القسم وما بعده محكيّ بقول أي‏:‏ قائلين‏.‏ أو أجرى دعوا مجرى قالوا، لأنه نوع من القول، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إلى الريح العاصف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما معنى قوله بغير الحق، والبغي لا يكون بحق‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة انتهى‏.‏ وكأنه قد شرح قوله‏:‏ يبغون بأنهم يفسدون، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ البغي الترقي في الفساد‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ بغي الجرح ترقي إلى الفساد، وبغت المرأة فجرت انتهى‏.‏ ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقاً ولا يتضمن الفساد، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق، وطلب بغير حق‏.‏ ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال‏:‏ أكد ذلك بقوله بغير الحق‏.‏ وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي، وأنها كما قال سيبويه‏:‏ حرف‏.‏ ومذهب غيره أنها ظرف، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو‏.‏ والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي، والخطاب بيا أيها الناس، قال الجمهور‏:‏ لأهل مكة‏.‏ والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا، ويحتمل كما قالوا‏:‏ العموم، فيندرج أولئك فيهم، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ‏.‏ ومعنى على أنفسكم‏.‏ وبال البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم‏.‏ فقوله‏:‏ على أنفسكم، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم، فيتعلق بمحذوف‏.‏ وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص، وابن أبي إسحاق، وهارون، عن ابن كثير‏:‏ على أنه مصدر في موضع الحال أي‏:‏ متمتعين، أو باقياً على المصدرية أي‏:‏ يتمتعون به متاع، أو نصباً على الظرف نحو‏:‏ مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا‏.‏ وكل هذه التوجيهات منقولة‏.‏ والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي‏:‏ كائن على أنفسكم، ولا ينتصبان ببغيكم، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر، وهو غير جائز‏.‏ وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وأجاز النحاس، وتبعه الزمخشري، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله‏:‏ بغيكم، كما تعلق في قوله، فبغى عليهم، ويكون الخبر متاع إذا رفعته‏.‏ ومعنى على أنفسكم‏:‏ على أمثالكم‏.‏ والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً‏:‏ متاعاً الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه، ونصب الحياة‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا‏.‏ وقرأ فرقة‏:‏ فينبئكم بالياء على الغيبة، والمراد الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا‏}‏ ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها، وأنها بحال ما تعز وتسر، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى‏.‏ وإنما هنا ليست للحصر لا وضعاً ولا استعمالاً، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول‏.‏ والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع‏.‏ وقيل‏:‏ شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف، فيكون التقدير‏:‏ كنبات ماء، فحذف المضاف‏.‏ وقيل‏:‏ شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف، فيكون التقدير‏:‏ كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء‏.‏ قيل‏:‏ ويقوي هذا قوله‏:‏ وظن أهلها أنهم قادرون عليها‏.‏ والسماء إما أن يراد من السحاب، وإما أن يراد من جهة السماء، والظاهر أن النبات اختلط بالماء‏.‏ ومعنى الاختلاط‏:‏ تشبثه به، وتلقفه إياه، وقبوله له، لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة‏.‏ وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال‏:‏ اختلط بصاحبه، فلذلك فسره بعضهم بقوله‏:‏ خالطه الماء وداخله، فغذّى كل جزء منه‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ فاختلط به اختلاط مجاورة، لأنّ الاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض انتهى‏.‏ ولا يمتنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل، فلا تقول‏:‏ إنه اختلاط مجاورة‏.‏ وقيل‏:‏ اختلط اختلف وتنوع بالماء، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير‏.‏ وقيل‏:‏ معنى اختلط تركب‏.‏ وقيل‏:‏ امتد وطال‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي‏:‏ اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى‏.‏ وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله‏:‏ فاختلط، هو ضمير يعود على الماء أي‏:‏ فاختلط الماء بالأرض‏.‏ ويقف هذا الذاهب على قوله‏:‏ فاختلط، ويستأنلف به نبات على الابتداء، والخبر المقدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى‏.‏ والوقف على قوله‏:‏ فاختلط، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى، الفصيح اللفظ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد، والمعنى الضعيف‏.‏ ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض، أو بالماء نبات الأرض، لم يكد ينعقد كلاماً من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا‏.‏

ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال‏:‏ مما يأكل الناس، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام، كالحشيش وسائر ما يرعى‏.‏ قال الحوفي‏:‏ مِن متعلقه باختلط‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ مما يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً‏.‏ وقول أبي البقاء‏:‏ هو الظاهر، وتقديره‏:‏ كائناً مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية‏.‏ فأما أن يقدر قبلها محذوف أي‏:‏ فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا‏.‏

وقوله‏:‏ أخذت الأرض زخرفها وازينت، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس‏.‏ وازينت أي‏:‏ بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ وازينت تأكيداً لقوله‏:‏ أخذت الأرض زخرفها‏.‏ واحتمل أن لا يكون تأكيداً، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين، فقيل‏:‏ وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين‏.‏ ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وازينت وأصله وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام‏.‏ وقرأ أبي وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش‏:‏ وتزينت على وزن تفعلت‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبو العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي‏:‏ وأزينت على وزن أفعلت، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت‏.‏ وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعبلت المرأة‏.‏ والقياس‏:‏ وأزانت، كقولك وأبانت‏.‏ وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت، قاله عنه صاحب اللوامح قال‏:‏ كأنه كانت في الوزن بوزن احمأرَّت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة‏.‏ ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال‏:‏ وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر‏:‏

إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت *** وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة‏:‏ وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهي قراءة أبي عثمان النهدي‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ وازّاينت، والأصل وتزاينت فأدغم، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى أيقنوا وليس بسديد، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات‏.‏

والضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف أي‏:‏ أهل نباتها‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على الغلة‏.‏ وقيل‏:‏ على الزينة، وهو ضعيف‏.‏ وجواب إذا قوله‏:‏ أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد‏.‏ وقيل‏:‏ أتاها أمرنا بإهلاكها، وأبهم في قوله‏:‏ ليلاً أو نهاراً، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره، أو تكون أو للتنويع، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما‏.‏ والحصيد‏:‏ فعيل بمعنى مفعول أي‏:‏ المحصود، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الحصيد المستأصل انتهى‏.‏ وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً علاقة ما بينهما من الطرح على الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير‏:‏ فجعلناها كالحصيد‏.‏ وقوله‏:‏ كأن لم تغن بالأمس، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها‏.‏

وقرأ الحسن وقتادة‏:‏ كأن لم يغن بالياء على التذكير‏.‏ فقيل‏:‏ عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله‏:‏ عليها، وفي قوله‏:‏ أتاها فجعلناها‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد أي‏:‏ كأن لم يغن الحصيد‏.‏ وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر‏:‏ كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل‏.‏ وقال الأعشى‏:‏ طويل الثواء طويل التغني، وهو من غنى بكذا أقام به‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والأمس مثل في الوقت‏.‏ كأنه قيل‏:‏ كأن لم تغن آنفاً انتهى‏.‏ وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت، ولا هو مرادف كقوله‏:‏ آنفاً، لأنّ آنفاً معناه الساعة، والمعنى‏:‏ كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان‏.‏ ولولا أنّ قائلاً قال في غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى، لأنه لا وجود لها الساعة، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة‏؟‏ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى حالة العدم، فكان حالة الوجود ما سبقت له‏.‏ وفي مصحف أبي‏:‏ كأن لم تغن بالأمس، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها‏.‏ وفي التحرير نفصل الآيات، رواه عنه ابن عباس‏.‏ وقيل في مصحفه‏:‏ وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها‏.‏ وفي التحرير‏:‏ وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبيّ كأن لم تغن بالأمس، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى‏.‏ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي‏:‏ مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي، نفصل في المستقبل‏.‏ وقرأ أبو الدرداء‏:‏ لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

لما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال، وما تضمنه من الآفات والعاهات، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن، وهي الجنة، إذ أهلها سالمون من كل مكروه‏.‏ ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل‏:‏ بيت الله، وناقة الله، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً‏}‏ قال الحسن‏:‏ إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تحيتهم فيها سلاماً‏}‏ وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوباً يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشرّ انته‏.‏ ولما كان الدعاء عامًّاً لم تتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال‏:‏ ويهدي من يشاء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويهدي يوفق من يشاء، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم، لأن مشيئته تابعة لحكمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

رهقه غشيه، وقيل‏:‏ لحقه ومنه‏.‏ ولا ترهقني من أمري عسراً، ورجل مرهق يغشاه الأضياف‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ الرهق اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق‏.‏ يقال‏:‏ أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ أصل الرهق المقاربة، يقال‏:‏ غلام مراهق أي قارب الحلم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أرهقوا القبلة» أي ادنوا منها‏.‏ ويقال‏:‏ رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى‏.‏

القتر والقترة الغبار الذي معه سواد، وقال ابن عرفة‏:‏ الغبار‏.‏ وقال الفرزدق‏:‏

متوج برداء الملك يتبعه *** موج ترى فوقه الرايات والقترا

أي غبار العسكر‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ أصل القتر دخان النار، ومنه قتار القدر انتهى‏.‏ ويقال‏:‏ القتر بسكون التاء الشأن والأمر، وجمعه شؤون‏.‏ وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده‏.‏ عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي، ومنه الروض العازب‏.‏ وقال أبو تمام‏:‏

وقلقل نأى من خراسان جأشها *** فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه

وقيل للغائب عن أهله عازب، حتى قالوه لمن لا زوجة له‏.‏

‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏‏:‏ أحسنوا قال ابن عباس‏:‏ ذكروا كلمة لا إله إلا الله‏.‏ وقال الأصم‏:‏ أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي‏:‏ أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهى‏.‏ وقيل‏:‏ أحسنوا معاملة الناس‏.‏ وروي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحسنوا العمل في الدنيا» وفي الصحيح‏:‏ «ما الإحسان‏؟‏ قال‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك» وعن عيسى عليه السلام‏:‏ «ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة، ولكنّ الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك»‏.‏

والحسنى قال الأكثرون‏:‏ هي الجنة، وروي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صح وجب المصير إليه‏.‏ وقال الطبري‏:‏ الحسنى عام في كل حسن، فهو يعم جميع ما قيل ووعد الله في جميعها بالزيادة، ويؤيد ذلك أيضاً قوله‏:‏ أولئك أصحاب الجنة‏.‏ ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى‏.‏ وقال عبد الرحمن بن سابط‏:‏ هي النضرة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الجزاء في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الأمنية ذكره ابن الأنباري‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المثوبة الحسنى وزيادة، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ وعن علي‏:‏ الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها‏.‏ وعن الحسن‏:‏ عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ الزيادة مغفرة من الله ورضوان‏.‏ وعن زياد بن شجرة‏:‏ الزيادة أنّ تمر السحابة بأهل الجنة فتقول‏:‏ ما تريدون أن أمطركم‏؟‏ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم‏.‏

وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث موضوع‏:‏ «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة، فيكشفون الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئاً هو أحب إليهم منه» انتهى‏.‏ أما تفسيره أولاً ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله، وأما قوله‏:‏ وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب، والنسائي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفاً على أبي موسى وقال‏:‏ بأن الزيادة هي النظر إلى الله تعالى، أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رواية وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عجرة، وأبو موسى، وصهيب، وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين‏.‏ ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أراد ولا يلحقها خزي، والخزي يتغير به الوجه ويسود‏.‏ قال ابن ابن عباس‏:‏ والذلة الكآبة‏.‏ وقال غيره‏:‏ الهوان‏.‏ وقيل‏:‏ الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله‏:‏ ‏{‏وترهقهم ذلة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عليها غبرة ترهقها قترة‏}‏ وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها، ولظهور أثر السرر والحزن فيه‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى بن عمر، والأعمش‏:‏ قتر بسكون التاء، وهي لغة كالقدر، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا وحالهم يوم القيامة ومآلهم إلى الجنة، ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم، وجاءت صلة المؤمنين أحسنوا، وصلة الكافرين كسبوا السيئات، تنبيهاً على أنّ المؤمن لما خلق على الفطرة وأصلها بالإحسان، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة انتقل عنها وكسب السيئات، فجعل ذلك محسناً، وهذا كاسباً للسيئات، ليدل على أنّ المؤمن سلك ما ينبغي، وهذا سلك ما لا ينبغي‏.‏ والظاهر أنّ والذين مبتدأ، وجوزوا في الخبر وجوهاً أحدها‏:‏ أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها، وجزاء مبتدأ فقيل‏:‏ خبره مثبت وهو بمثلها‏.‏ واختلفوا في الباء فقيل‏:‏ زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها، كما قال‏:‏ وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما زيدت في الخبر في قوله‏:‏ فمنعكها بشيء يستطاع، أي شيء يستطاع‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بزائدة، والتقدير‏:‏ مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها‏.‏ وقيل‏:‏ محذوف، فقدّره الحوفي‏:‏ لهم جزاء سيئة قال‏:‏ ودل على تقدير لهم قوله‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى‏}‏ حتى تشاكل هذه بهذه‏.‏ وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع، والباء في قولهما متعلقة بقوله‏:‏ جزاء، والعائد من هذه الجملة الواقعة خبراً عن الذين محذوف تقديره‏:‏ جزاء سيئة منهم، كما حذف في قولهم‏:‏ السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم‏.‏ وعلى تقدير الحوفي‏:‏ لهم جزاء يكون الرابط لهم‏.‏ الثاني‏:‏ أنّ الخبر قوله‏:‏ ما لهم من الله من عاصم، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي، والصحيح جوازه‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون الخبر أولئك وما بعده، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة، وفي القول الثالث بثلاث جمل، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفاً على قوله‏:‏ للذين أحسنوا، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله‏:‏ والذين على إسقاط حرف الجر أي‏:‏ وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، فيتعادل التقسيم، كما تقول‏:‏ في الدار زيد، والقصر عمرو، وأي‏:‏ وفي القصر عمرو‏.‏ وهذا التركيب مسموع من لسان العرب، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين‏.‏ وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو‏.‏

والظاهر أنّ السيئات هنا هي سيئات الكفر، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد‏.‏ وقيل‏:‏ السيئات المعاصي، فيندرج فيها الكفر وغيره‏.‏ ولهذا قال ابن عطية‏:‏ وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى، ومعنى بمثلها أي‏:‏ لا يزاد عليها‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ معنى بمثلها أي‏:‏ بما يليق بها من العقوبات، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات، ولهذا كانت جهنم دركات، وكان المنافقون في الدرك الأسفل لقبح معصيتهم‏.‏ وقرئ‏:‏ ويرهقهم بالياء، لأنّ تأنيث الذلة مجاز، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم، وهنا غشيتهم الذلة، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل‏:‏ كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، وهذه مبالغة في سواد الوجوه‏.‏ وقد جاء مصرحاً في قوله‏:‏ ‏{‏وتسود وجوه‏}‏ من الله أي من سخطه وعذابه، أو من جهته تعالى، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت‏:‏ كسبت، ومنه الغشاء‏.‏ وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز، فتكون ألوانهم مسودة‏.‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ واعلم أن حكماء الإسلام قالوا‏:‏ المراد من هذا السواد ههنا سواد الجهل وظلمة الضلال، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة‏.‏ فقوله‏:‏ وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة، المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى‏.‏ وكثيراً ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير، وينقل كلامهم تارة منسوباً إليهم، وتارة مستنداً به ويعني‏:‏ بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية، وهم أحق بأنْ يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى‏.‏ وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتاباً إلهياً، فلأنْ ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق‏.‏ وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس، ويسمونها الحكمة، ويستجهلون من عرى عنها، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس، ويعكفون على دراستها، ولا تكاد تلقى أحداً منهم يحفط قرآناً ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا‏:‏ كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل‏؟‏ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم، أغرى به علماء الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الاشهاد، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء‏:‏

خليفتنا جزاك الله خيراً *** عن الإسلام والسعي الكريم

فحق جهاده جاهدت فيه *** إلى أن فزت بالفتح العظيم

وصيرت الأنام بحسن هدى *** على نهج الصراط المستقيم

فجاهد في أناس قد أضلوا *** طريق الشرع بالعلم القديم

وحرق كتبهم شرقاً وغرباً *** ففيها كامناً شر العلوم

يدب إلى العقائد من أذاها *** سموم والعقائد كالجسوم

وفي أمثالها إذ لا دواء *** يكون السيف ترياق السموم

وقال‏:‏

يا وحشة الإسلام من فرقة *** شاغلة أنفسها بالسفه

قد نبذت دين الهدى خلفها *** وادعت الحكمة والفلسفه

وقال‏:‏

قد ظهرت في عصرنا فرقة *** ظهورها شؤم على العصر

لا تقتدي في الدين إلا بما *** سن ابن سينا أو أبو نصر

ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيراً من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهراً من غير أن ينكر ذلك أحد تعجبت من ذلك، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق، إنما يسمونه المفعل، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتاباً من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتاباً لبعض شيوخنا في المنطق، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير، فسماه في كتابه لي بالمفعل‏.‏ ولما ألبست وجوههم السواد قال‏:‏ كأنما أغشيت وجوههم، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته‏.‏

وقرأ ابن كثير والكسائي قطعاً بسكون الطاء، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع‏.‏ وقال الأخفش في قوله‏:‏ بقطع من الليل، بسواد من الليل‏.‏ وأهل اللغة يقولون‏:‏ القطع ظلمة آخر الليل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ طائفة من الليل‏.‏ وعلى هذه القراءة يكون قوله‏:‏ مظلماً صفة لقوله‏:‏ قطعاً، كما جاء ذلك في قراءة أبي‏:‏ كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء‏.‏ وقيل‏:‏ قطع جمع قطعة، نحو سدر وسدرة، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو‏:‏ نخل منقعر، وبالمؤنث نحو نخل خاوية، ويجوز على هذا أن يكون مظلماً حالاً من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً بتحريك الطاء بالفتح من الليل‏:‏ مظلماً بالنصب‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل، فما العامل فيه‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لا يخلو إما أن يكون أغشيت، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله‏:‏ قطعاً، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة‏.‏ وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى‏.‏ أما الوجه الأوّل فهو بعيد، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن، وأغشيت عامل في قوله‏:‏ قطعاً الموصوف بقوله‏:‏ من الليل، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي‏:‏ قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه‏.‏

وقيل‏:‏ مظلماً حال من قوله‏:‏ قطعاً، أو صفة‏.‏ وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعاً في معنى كثير، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير‏.‏ وجوزوا أيضاً في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلماً حالاً من قطع، وحالاً من الضمير في من‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فإذا كان نعتاً يعني‏:‏ مظلماً نعتاً لقطع، فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة، قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مباركاً‏}‏ انتهى‏.‏ ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير‏:‏ كائناً من الليل مظلماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من ‏{‏الذين أحسنوا‏}‏ ‏{‏والذين كسبوا السيآت‏}‏ وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة‏:‏ نحشرهم بالنون، وقرأت فرقة بالياء‏.‏ وقيل‏:‏ يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات، ومنهم عابد غير الله، ومن لا يعبد شيئاً‏.‏ وانتصب يوم على فعل محذوف أي‏:‏ ذكرهم أو خوفهم ونحوه‏.‏ وجميعاً حال، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون الله كائناً من كان أربعة أقوال‏.‏ ومن قال‏:‏ الأصنام، قال‏:‏ ينفخ فيها الروح فينطقها الله بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم‏:‏ اتبعوا ما كنتم تعبدون، فيقولون والله لإياكم كنا نعبد، فتقول الآلهة‏:‏ فكفى بالله شهيداً» الآية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم، بدليل القول لهم‏:‏ مكانكم أنتم وشركاؤكم، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم‏:‏ إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏.‏ وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم‏.‏ ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال، وقدر بأثبتوا كما قال‏:‏

وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

أي اثبتي‏.‏ ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله‏:‏ أنتم وشركاؤكم‏.‏ والحركة التي في مكانك ودونك، أهي حركة إعراب، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال‏؟‏ ألها موضع من الإعراب أم لا‏؟‏ فمن قال‏:‏ هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً، ومن قال‏:‏ لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء‏.‏ وعلى الأول عول الزمخشري فقال‏:‏ مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم‏.‏ واختلفوا في أنتم، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال‏:‏ وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله‏:‏ الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى‏.‏ يعني عطفاً على الضمير المستكن، وتقديره‏:‏ الزموا، وأنّ مكانكم قام مقامه، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا‏.‏ ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك‏:‏ عليك زيداً لما ناب مناب، الزم تعدى‏.‏ وإليك لما ناب مناب تنح، لم يتعد‏.‏ ولكون مكانك لا يتعدى، قدره النحويون اثبت، واثبت لا يتعدى‏.‏ قال الحوفي‏:‏ مكانكم نصب بإضمار فعل أي‏:‏ الزموا مكانكم أو اثبتوا‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر، أي الزموا انتهى‏.‏ وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه، كما تعدى الزم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى‏.‏ فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه، ولقوله‏:‏ فزيلنا بينهم، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق‏.‏ ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم الفعل‏.‏ ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول‏:‏ كل رجل وضيعته بالرفع، ولا يجوز فيه النصب‏.‏ وقال ابن عطية أيضاً‏:‏ ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى‏.‏ وهذا ليس بجيد، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه، وهو غير جائز لا تقول‏:‏ أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم‏.‏ والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا، لأن التأكيد ينافي الحذف‏.‏ وليس من كلامهم‏:‏ أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تريد اضرب أنت زيد، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً‏.‏

يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله‏.‏ قال الفراء‏:‏ تقول العرب‏:‏ زلت الضأن من المعز فلم تزل‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى‏.‏ وزيل مضاعف للتكثير، وهو لمفارقة الحبث من ذوات الياء، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة‏.‏ وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول، وتبعه أبو البقاء‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي‏:‏ زيولنا مثل بيطر وبيقر، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى‏.‏ وليس بجيد، لأنّ فعل أكثر من فيعل، ولأنّ مصدره تزييل‏.‏ ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله، فكان يكون زيلة كبيطرة، لأنّ فيعل ملحق بفعلل، ولقولهم في قريب من معناه‏:‏ زايل، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا ضلوا عنا‏}‏ وقرأت فرقة‏:‏ فزايلنا حكاه الفراء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كقولك صاعر خده، وصعر، وكالمته وكلمته انتهى‏.‏ يعني أن فاعل بمعنى فعل، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق‏.‏ قال‏:‏

وقال العذارى إنما أنت عمنا *** وكان الشباب كالخليط يزايله

وقال آخر‏:‏

لعمري لموت لا عقوبة بعده *** لذي البث أشفى من هوى لا يزايله

والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده‏.‏ وقيل‏:‏ فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية، وفزيلنا‏.‏ وقال‏:‏ هنا ماضيان لفظاً، والمعنى‏:‏ فنزيل بينهم ونقول‏:‏ لأنهما معطوفان على مستقبل، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم‏:‏ إياكم كنا نعبد، والمعنى‏:‏ إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أنداداً فأطعتموهم، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى‏.‏ وانتصب شهيداً، قيل‏:‏ على الحال، والأصح على التمييز لقبوله مِن‏.‏ وتقدم الكلام في كفى وفي الياء، وأنْ هي الخفيفة من الثقيلة‏.‏ وعند القراء هي النافية، واللام بمعنى إلا، وقد تقدم الكلام في ذلك‏.‏ واكتفاؤهم بشهادة الله هو على انتفاء أنهم عبدوهم‏.‏ ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي‏:‏ لا شعور لنا بذلك‏.‏ وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم، ولا شيء أعظم سبباً للغفلة من الجمادية، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

هنالك ظرف مكان أي‏:‏ في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش‏.‏ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى الوقت، استعير ظرف المكان للزمان أي‏:‏ في ذلك الوقت‏.‏ وقرأ الإخوان وزيد بن علي‏:‏ تتلوا بتاءين أي‏:‏ تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها، قاله السدي‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

إن المريب يتبع المريبا *** كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

قيل‏:‏ ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي‏:‏ تقرأ كتبها التي تدفع إليها‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ تبلوا بالتاء والباء أي‏:‏ تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود‏؟‏ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره‏.‏ وروي عن عاصم‏:‏ نبلوا بنون وباء أي‏:‏ نختبر‏.‏ وكل نفس بالنصب، وما أسلفت بدل من كل نفس، أو منصوب على إسقاط الخافض أي‏:‏ ما أسلفت‏.‏ أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي‏:‏ نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء‏.‏ وعن الحسن تبلوا تتسلم‏.‏ وعن الكلبي‏:‏ تعلم‏.‏ وقيل‏:‏ تذوق‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب‏:‏ وردوا بكسر الراء، لمَّا سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها‏.‏ ومعنى إلى الله إلى عقابه‏.‏ وقيل‏:‏ إلى موضع جزائه مولاهم الحق، لا ما زعموه من أصنامهم، إذ هو المتولي حسابهم‏.‏ فهو مولاهم في الملك والإحاطة، لا في النصر والرحمة‏.‏ وقرئ الحق بالنصب على المدح نحو‏:‏ الحمد لله أهل الحمد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل، على تأكيد قوله‏:‏ ردوا إلى الله انتهى‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وردوا إلى الله، جعلوا ملجأين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله، ولذلك قال‏:‏ مولاهم الحق‏.‏ وضل عنهم أي‏:‏ بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء لله شافعون لهم عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة‏.‏ فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه، فمن السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات‏.‏ فمن لابتداء الغاية وهيئ الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة، تعالى توسعة منه وإحساناً‏.‏ ومن ذهب إلى أنّ التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان‏.‏ ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين‏:‏ السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء، والبصر الذي يرى ملكوت السموات والأرض‏.‏ ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى‏.‏ ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار‏.‏ وعن عليّ كرم الله وجهه‏:‏ سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم‏.‏ وأم هنا تقتضي تقدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أما ذا كنتم تعملون‏}‏ فلا تتقدّر ببل، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء‏.‏ ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت، والميت من الحي، وذلك من باهر قدرته، وهو إخراج الضد من ضده‏.‏ وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور‏.‏ واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي‏:‏ لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه‏.‏ ومعنى أفلا تتقون‏:‏ أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة‏؟‏ وقيل‏:‏ أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

فذلكم إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة، واعتقاد اختصاصه بالألوهية لا أصنامكم المربوبة الباطلة‏.‏ وماذا استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلا، وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل‏:‏ ما بعد الحق إلا الضلال، فالحق والضلال لا واسطة بينهما، إذ هما نقيضان، فمن يخطئ الحق وقع في الضلال‏.‏ وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً، كأنه قيل‏:‏ أي شيء‏.‏ والخبر بعد الحق، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما، كأنه قيل‏:‏ الذي بعد الحق‏؟‏ وبعد صلة كذا‏.‏ ولما ذكر تعالى تلك الصفات، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو الله، وأنه مالكهم وأنه هو الحق، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى‏:‏ فأنى تصرفون، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف‏.‏ واستنباط كون الشطرنج ضلالاً من قوله‏:‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال، لا يكاد يظهر، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا‏.‏ وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون‏:‏ إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان‏.‏ قال‏:‏ لو كان كذلك ما قال‏:‏ أنى تصرفون‏.‏ كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول‏:‏ إني عميت‏.‏ كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب، والإشارة بذلك قيل‏:‏ إلى المصدر المفهوم من تصرفون، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله‏:‏ فسيقولون الله حق العذاب عليهم أي‏:‏ جازاهم مثل أفعالهم‏.‏ وقيل‏:‏ إشارة إلى الحق‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم، واكتسبوا كذلك حقت‏.‏ ومعنى فسقوا‏:‏ تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي‏:‏ حق عليهم انتفاء الإيمان‏.‏ ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلاً أي‏:‏ لأنهم لا يؤمنون‏.‏ ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة‏:‏ أنهم لا يؤمنون بالكسر، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده‏.‏ وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان‏:‏ كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة‏.‏ وقرأ باقي السبعة على الافراد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

لما استفهمهم عن أشياء من صفات الله تعالى واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله، استفهم عن شيء هو سبب العبادة‏:‏ وهو إبداء الخلق، وهم يسلمون ذلك‏.‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله‏}‏ ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله، وأنّ ذلك لوضوحه وقيام برهانه، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء‏.‏ وجاء الشرع بوجوبه، فوجب اعتقاده‏.‏ ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب فقال‏:‏ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها، فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام، وذلك تأكيد وتثبيت‏.‏ ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزءيها في قوله‏:‏ فسيقولون الله، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها‏.‏ ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية إلى الحق وإلى مناهج الصواب، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع قال تعالى حكاية عن الكليم‏:‏ ‏{‏قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى‏}‏ فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع، وهما حالان للجسد والروح‏.‏ ولما كانت العقول يلحقها الاضطراب والغلط، بيّن تعالى أنه لا يهديهما إلا هو بخلاف أصنامهم ومعبوداتهم، فإنه ما كان منها لا روح فيه جماد لا تأثير له، وما فيه روح فليس قادراً على الهداية، بل الله تعالى هو الذي يهديه‏.‏ وهدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين، وإلى الثاني بإلى وباللام‏.‏ ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول، ولا يصح أن يكون لازماً بمعنى يهتدي، لأن مقابله إنما هو متعد، وهو قوله قل‏:‏ الله يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق‏.‏ وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى، وقال‏:‏ لا نعرف هذا، وأحق ليست أفعل تفضيل، بل المعنى حقيق بأن يتبع‏.‏ ولما كانوا معتقدين أنّ شركاءهم تهدي إلى الحق، ولا يسلمون حصر الهداية لله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبادر بالجواب فقال‏:‏ قل الله يهدي للحق، ثم عادل في السؤال بالهمزة وأم بين من هو حقيق بالاتباع، ومن هو غير حقيق، وجاء على الأفصح الأكثر من فصل أم مما عطفت عليه بالخبر كقوله‏:‏ ‏{‏أذلك خير أم جنة الخلد‏}‏ بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏أقريب أم بعيد ما توعدون‏}‏ وسيأتي القول في ترجيح الوصل هنا في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقرأ أهل المدينة‏:‏ إلا ورشا أمن لا يهدي بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يقدر أحد أن ينطق به‏.‏ وقال المبرد‏:‏ من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة‏.‏ وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك‏:‏ إلا أنه اختلس الحركة‏.‏ وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وورش، وابن محيصن‏:‏ كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وأصله يهتدي، فقلب حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت التاء في الدال‏.‏ وقرأ حفص، ويعقوب، والأعمش عن أبي بكر كذلك، إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطر إلى الحركة حرّك بالكسر‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هي لغة سفلى مضر‏.‏ وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك، إلا أنه كسر الياء‏.‏ ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز يهدي، ويجيز تهدي ونهدي وأهدى قال‏:‏ لأن الكسرة في الياء تثقل‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى بن وثاب، والأعمش‏:‏ يهدي مضارع هدى‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي، أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره، إلا أنْ يهديه الله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه، إلا أن يهدي، إلا أن ينقل أولا يهتدي، ولا يصح منه الاهتداء إلا بنقلة الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيواناً مطلقاً فيهديه انتهى‏.‏ وتقدم إنكار المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري‏:‏ من أنّ هدى بمعنى اهتدى‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ وصف الأصنام بأنها لا تهتدي إلا أن تهدى، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت‏.‏ فوجه ذلك أنه عامل في العبادة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل، وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والذي أقول إنّ قراءة حمزة والكسائي يحتمل أن يكون المعنى أم من لا يهدي أحداً إلا أن يهدي ذلك الأحد بهداية من عند الله، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها أم مَن لا يهتدي إلا أن يهدي فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي، وفيه تجوز كثير‏.‏ ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله‏:‏ أم من لا يهدي أي لا يهدي غيره، ثم قال‏:‏ إلا أن يهدي استثناء منقطع، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول‏:‏ فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع‏.‏ وقيل‏:‏ أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى‏.‏ ويكون استثناء متصلاً لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية، بخلاف الأصنام‏.‏ فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي‏:‏ أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم‏؟‏ كيف تحكمون استفهام آخر أي‏:‏ كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء‏؟‏ وهاتان جملتان أنكر في الأولى، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

الظاهر أن أكثرهم على بابه، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال‏:‏

أربّ يبول الثعلبان برأسه *** لقد هان من بالت عليه الثعالب

وقيل‏:‏ المراد بأكثرهم جميعهم، والمعنى‏:‏ ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظناً، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم‏.‏ والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئاً أي‏:‏ من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع‏.‏ وقيل‏:‏ وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتاً والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن، وتقليد الآباء‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في رؤساء اليهود وقريش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لما تقدم قولهم‏:‏ ‏{‏ائت بقرآن غير هذا أو بدله‏}‏ وكان من قولهم‏:‏ إنه افتراه قال تعالى‏:‏ وما كان هذا القرآن أن يفتري أي‏:‏ ما صح، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى‏.‏ والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه، وكونه جامعاً للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى‏.‏ والظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي‏:‏ افتراء، أي‏:‏ ذا افتراء، أو مفترى‏.‏ ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك‏:‏ ما كان زيد ليفعل، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ‏.‏ والصحيح أنهما لا يتعاقبان، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك‏.‏ وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ يفتري خبراً لكان، بل الخبر محذوف‏.‏ وأن يفترى معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام، ووقعت لكنْ هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما‏:‏ الكذب والتصديق المتضمن الصدق، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدّقاً لما معكم‏.‏ وعن الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها، ولا هي في بلده ولا قومه، لا بتصديق الاشراط، لأنهم لم يشاهدوا شيئاً منها‏.‏ وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تصديق وتفصيل بالنصب، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي‏:‏ ولكن كان تصديق أي مصدقاً ومفصلاً‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب مفعولاً من أجله، والعامل محذوف، والتقدير‏:‏ ولكن أنزل للتصديق‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ تفصيل وتصديق بالرفع، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ ولكن هو تصديق‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏

ولست الشاعر السفساف فيهم *** ولكن مده الحرب العوالي

أي ولكن أنا‏.‏ وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف‏.‏ وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل‏:‏ ولكن تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب، كائناً من رب العالمين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه في ذلك، فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل، ويكون لا ريب فيه اعتراضاً كما تقول‏:‏ زيد لا شك فيه كريم انتهى‏.‏ فقوله‏:‏ فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل، إنما يعني من جهة المعنى، وأما من جهة الإعراب فلا يكون إلا متعلقاً بأحدهما، ويكون من باب الأعمال وانتفاء الريب عنه على ما بيَّن في البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ وجمع بينه وبين قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى، بل جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب وبياناً لما فيها، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب‏}‏ الآية‏.‏ وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي‏:‏ بل أيقولون اختلقه‏.‏ والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أم هذه بمنزلة همزة الاستفهام‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه‏.‏ وقيل‏:‏ الميم صلة، والتقدير أيقولون‏.‏ وقيل‏:‏ أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت الجملة قبلها والتقدير‏:‏ أيقرون به أم يقولون افتراه‏.‏ وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال‏:‏ قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى‏.‏ والضمير في مثله عائد على القرآن أي‏:‏ بسورة مماثلة للقرآن، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز‏.‏

وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي‏:‏ بسورة كتاب أو كلام مثله أي‏:‏ مثل القرآن‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي‏:‏ بصورة بشر مثله، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي العامة إلى القرآن‏.‏ وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دون الله أي‏:‏ من غير الله، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله، فلا تستعينوه وحده، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه‏.‏ وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا‏:‏ لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي به‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في‏:‏ ‏{‏قل لئن اجتمعت‏}‏ الآية، وتحد بعشر سور، وتحدّ بسورة واحدة، وتحد بحديث مثله في قوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بحديث مثله‏}‏ وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قال الزمخشري‏:‏ بل كذبوا، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذا اللفظ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا تأويله‏}‏ والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً، والمعنى الثاني‏:‏ أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ يحتمل وجوهاً، الأول‏:‏ كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ‏{‏أساطير الأوّلين‏}‏ ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقله أهله من عز إلى ذل، ومن ذل إلى عز، وبفناء الدنيا، فيعتبر بذلك‏.‏ وأن ذلك القصص بوحي من الله، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ‏.‏ الثاني‏:‏ كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم، وقد أجاب الله بقوله‏:‏ ‏{‏فيه آيات بينات‏}‏ الآية‏.‏ الثالث‏:‏ ظهور القرآن شيئاً فشيئاً، فساء ظنهم وقالوا‏:‏ ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه‏.‏ الرابع‏:‏ القرآن مملوء من الحشر، وكانوا ألفوا المحسوسات، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة‏.‏ الخامس‏:‏ أنه مملوء من الأمر بالعبادات، وكانوا يقولون‏:‏ إله العالم غني عن طاعتنا، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه‏.‏ وأجاب تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إن أحسنتم أحسنتم‏}‏ الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة، فلما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله‏:‏ بما لم يحيطوا بعلمه، إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله‏:‏ ولما يأتهم تأويله، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصاً‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما معنى التوقع في قوله تعالى‏:‏ ولم يأتهم تأويله‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليداً للآباء، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً انتهى‏.‏ ويحتاج كلامه هذا إلى نظر‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ولما يأتهم تأويله، ولما يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق‏؟‏ يعني‏:‏ أنه كتاب معجز من جهتين‏:‏ من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب‏.‏

فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى‏.‏ وبقيت جملة الإحاطة بلم، وجملة إتيان التأويل بلما، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق‏.‏ والكاف في موضع نصب أي‏:‏ مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم، يعني‏:‏ قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء عاندوا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال الزجاج‏:‏ كيف، في موضع نصب على خبر كان، لا يجوز أن يعمل فيه انظر، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض‏.‏ في قولك‏:‏ كيف زيد‏؟‏ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية، وينخلع معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها قولهم‏:‏ كن كيف شئت، وانظر قول البخاري‏:‏ كيف كان بدء الوحي، فإنه لم يستقيم انتهى‏.‏ وقول الزجاج‏:‏ لا يجوز أن يعمل فيه انظر، وتعليله‏:‏ يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة، وهي من نظر القلب‏.‏ وقول ابن عطية‏:‏ هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله، ليس كما ذكر، بل لكيف معنيان‏:‏ أحدهما‏:‏ الاستفهام المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل‏.‏ والثاني‏:‏ الشرط‏.‏ لقول العرب‏:‏ كيف تكون أكون وقوله‏:‏ ولكيف تصرفات إلى آخره، ليس كيف تحل محل المصدر، ولا لفظ كيفية هو مصدر، إنما ذلك نسبة إلى كيف‏.‏ وقوله‏:‏ ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم‏:‏ كن كيف شئت، لا يحتمل أن يكون منها، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية‏.‏ وأما كن كيف شئت، فكيف ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها‏.‏ وجوابها محذوف التقدير‏:‏ كيف شئت فكن، كما تقول‏:‏ قم متى شئت، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم، والجواب محذوف تقديره‏:‏ متى شئت فقم، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم‏:‏ إضرب زيداً إنْ أساء إليك، التقدير‏:‏ إن أساء إليك فاضربه، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه‏.‏ وأما قول البخاري‏:‏ كيف كان بدء الوحي‏؟‏ فهو استفهام محض، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلاً سأله فقال‏:‏ كيف كان بدء الوحي‏؟‏ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك‏.‏ والظالمين‏:‏ الظاهر أنه أريد به الذين من قبلهم، ويحتمل أن يراد به من عاد عليه ضمير بل كذبوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم، فمنهم من يؤمن به باطناً ويعلم أنه حق ولكنه كذب عناداً، ومنهم من لا يؤمن به لا باطناً ولا ظاهراً، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها‏.‏ وفيه تفريق كلمة الكفار، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله‏:‏ ‏{‏فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون‏}‏ ومعنى لي عملي أي‏:‏ جزاء عملي ولكم جزاء عملكم‏.‏ ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان‏.‏ والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة، وضمنها الوعيد كقوله‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ السورة‏.‏ وقيل‏:‏ المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم‏.‏ وقال قوم منهم ابن زيد‏:‏ هي منسوخة بالقتال لأنها مكية، وهو قول‏:‏ مجاهد، والكلبي، ومقاتل‏.‏ وقال المحققون‏:‏ ليست بمنسوخة، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، ولم ترفع آية السيف شيئاً من هذا‏.‏ وبدأ في المأمور بقوله‏:‏ لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله‏:‏ أنتم بريئون مما أعمل، لأنّ هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها، فناسب أنْ تلي قوله‏:‏ ولكم عملكم‏.‏ ولمراعاة الفواصل، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ في قوم من اليهود انتهى‏.‏ وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن، والضمير في يستمعون عائد على معنى مَن، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله‏:‏ ‏{‏ومن الشياطين من يغصون له‏}‏ والمعنى‏:‏ من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله‏:‏ أفأنت تسمع الصم أي هم، وإن استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل، فحري بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة، بخلاف أنْ لو كان الأصم عاقلاً فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء‏.‏ وأعاد في قوله‏:‏ ومنهم من ينظر إليك الضمير مفرداً مذكراً على لفظ من، وهو الأكثر في لسان العرب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ مَن كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة‏.‏ وقوله‏:‏ أفأنت‏:‏ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكترث بعدم قبولهم، فإنّ الهداية إنما هي لله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى‏.‏ وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو‏.‏ والمقصود من الآيتين‏:‏ إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق، فقد أيس من هداية هؤلاء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وإذا خفيت على المعني فعاذر *** أن لا تراءى مقلة عمياء

ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئاً، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه، ولكن هم ظالمو أنفسهم بالكفر والتكذيب‏.‏ واحتمل هذا النفي للظلم أنْ يكون في الدنيا أي‏:‏ لا يظلمهم شيئاً من مصالحهم، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدّر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل‏.‏ وتقدم خلاف القراء في، ولكنّ الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قرأ الأعمش وحفص‏:‏ يحشرهم بالياء راجعاً الضمير غائباً عائداً على الله، إذ تقدّم ‏{‏أنّ الله لا يظلم الناس شيئاً‏}‏ ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى‏:‏ كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني‏:‏ فقليل لبثهم، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ رأوا أنّ طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويوم ظرف، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره‏:‏ واذكر‏.‏ ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله‏:‏ كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار، ويصح نصبه بيتعارفون، والكاف من قوله‏:‏ كأن، يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال‏:‏ ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله‏:‏ كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا، ولعله أراد ما قاله الحوفي‏:‏ من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى‏.‏ فيكون التقدير‏:‏ ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا، وأما قوله‏:‏ والكاف من قوله كأن، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة، والجمل نكرات، ولا تنعت المعرفة بالنكرة‏.‏ لا يقال‏:‏ إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة، فإنّ ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة، تقول‏:‏ مررت في يوم قدم زيد الماضي، فتصف يوم بالمعرفة، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا‏.‏ وأيضاً فكأن لم يلبثوا إلا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم‏.‏ وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره‏:‏ كأن لم يلبثوا قبله، فحذف قبله أي قبل اليوم، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز‏.‏ فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ أما الأولى فحال منهم أي‏:‏ نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة‏.‏ وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني‏:‏ فتكون حالاً، وإما أن تكون مبينة لقوله‏:‏ كأن لم يلبثوا إلا ساعة، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل، كأنه قال‏:‏ متعارفين، المعنى‏:‏ اجتمعوا متعارفين‏.‏

ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى‏.‏ وأما قول ابن عطية‏:‏ ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال‏:‏ ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، فقد حكاه أبو البقاء فقال‏:‏ وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله انتهى‏.‏ وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز‏.‏ وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها، وأن يكون جملة مستأنفة، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول بعضهم لبعض‏:‏ أنت أضللتني وأغويتني، وليس تعارف شفقة وعطف، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم‏}‏ وقيل‏:‏ يعرف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطأ والكفر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تعارف تعاطف المؤمنين، والكافرون لا أنساب بينهم‏.‏ وقيل‏:‏ القيامة مواطن، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون، والظاهر أن قوله‏:‏ قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ هو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل‏:‏ ما أخسرهم‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي‏:‏ يتعارفون بينهم قائلين ذلك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى‏.‏ وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري‏:‏ يتعارفون بينهم قائلين ذلك، وأن يكون كقول غيره‏:‏ نحشرهم قائلين قد خسر، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولاً ليتعارفون، وأن يكون معمولاً لنحشرهم، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء الله‏.‏ وما كانوا مهتدين‏:‏ الظاهر أنه معطوف على قوله‏:‏ قد خسر، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا‏:‏ إنّ قوله قد خسر من كلامهم، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا‏.‏ ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة الذين أي‏:‏ كذبوا بلقاء الله، وانتفت هدايتهم في الدنيا‏.‏ ويحتمل أن تكون الجملة كالتوكيل بجملة الصلة، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد‏.‏ وقيل‏:‏ وما كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة‏.‏ وقيل‏:‏ للإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ في علم الله، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

إما هي أنْ الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة‏.‏ ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى‏.‏ يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه‏.‏ قال ابن خروف‏:‏ أجاز سيبويه الإتيان بما، وأن لا يؤتى بها، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها، والإراءة هنا بصرية، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين، والكاف خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وبعض الذي نعدهم يعني‏:‏ من العذاب في الدنيا‏.‏ وقد أراه الله تعالى أنواعاً من عذاب الكفار في الدنيا قتلاً وأسراً ونهباً للأموال وسبياً للذراري، وضرب جزية، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع‏.‏ والظاهر أنّ جواب الشرط هو قوله‏:‏ فإلينا مرجعهم، وكذا قاله الحوفي وابن عطية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى أي‏:‏ إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم‏.‏ فثم هاهنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل‏:‏ وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه، فنحن نريك في الآخرة انتهى‏.‏ فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف، لأن قوله‏:‏ فإلينا مرجعهم صالح أنْ يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه‏.‏ وأيضاً فقول الزمخشري‏:‏ فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ثم الله بفتح الثاء أي‏:‏ هنالك‏.‏ ومعنى شهادة الله على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال‏:‏ ثم الله معاقبهم، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

لما بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، تسلية له وتطميناً لقلبه‏.‏ ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة، بل بعث إليها رسولاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ وقوله‏:‏ فإذا جاء رسولهم، إما أن كون إخباراً عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا، ويكون المعنى‏:‏ أنه بعث إلى كل أمة رسولاً يدعوهم إلى دين الله وينبئهم على توحيده، فلما جاءهم بالبينات كذبوه، فقضى بينهم أي‏:‏ بين الرسول وأمته، فأنجى الرسول وعذب المكذبون‏.‏ وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي‏:‏ فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم، أي‏:‏ بين الأمة بالعدل، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، فهذا هو القضاء بينهم قاله‏:‏ مجاهد وغيره‏.‏ ويكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجيء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

الضمير في ويقولون، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الشحر، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد، أو على سبيل الاستخفاف، ولذلك قالوا‏:‏ إن كنتم صادقين أي‏:‏ لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه‏.‏ وقولهم‏:‏ هذا يشهد للقول الأول في الآية قبلها، وأنها حكاية حال ماضية‏.‏ وأنّ معنى ذلك‏:‏ فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا، وأنّ كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة، أمره عليه السلام أن يقول لهم‏:‏ ليس ذلك إليّ، بل ذلك إلى الله تعالى‏.‏ وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فكيف أملكه لغيري‏؟‏ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله‏؟‏ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى‏.‏ وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة أجل إلى آخر الآية في الأعراف‏.‏ وقرأ ابن سيرين‏:‏ آجالهم على الجمع‏.‏ وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل، إلا ما شاء الله أنْ أملكه وأقدر عليه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو استثناء منقطع أي‏:‏ ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب‏.‏ ولكل أمة أجل أي‏:‏ إنّ عذابكم له أجل مضروب عند الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها مع قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب‏:‏ أرأيت زيداً ما صنع‏؟‏ المعنى‏:‏ أخبرني عن زيد ما صنع‏.‏ وقبل دخول أرأيت كان الكلام‏:‏ زيد ما صنع‏؟‏ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف، والمسألة من باب الإعمال تنازع‏.‏ أرأيت وإن أتاكم على قوله‏:‏ عذابه، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين، وهو الذي ورد به السماع أكثر من إعمال الأول‏.‏ فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر، لأنّ إضماره مختص بالشعر، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك‏.‏ والمعنى‏:‏ قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه، وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل، إذ العذاب كله مرّ المذاق موجب لنفار الطبع منه، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم، والتنبيه لهم أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب أي‏:‏ أي شيء شديد تستعجلون منه، أي‏:‏ ما أشدّ وأهول ما تستعجلون من العذاب‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير‏.‏ وجواب الشرط محذوف، وتقدير الكلام‏:‏ أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى‏.‏ فظاهر كلام الحوفي‏:‏ أن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني، وأنها بمعنى أعلمتم، وأن جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، وأنه استفهام معناه التقرير، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ بم يتعلق الاستفهام‏؟‏ وأين جواب الشرط‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ تعلق بأرأيتم، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف‏:‏ وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى‏.‏ وما قدره الزمخشري غير سائغ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول‏:‏ أنت ظالم إن فعلت، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم‏.‏ وكذلك وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير‏:‏ إن شاء الله نهتد‏.‏ فالذي يسوغ أن يقدر إنْ أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً والمعنى‏:‏ إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان‏؟‏ انتهى‏.‏ أما تجويزه أن يكون ماذا جواباً للشرط فلا يصح، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء، تقول‏:‏ إنْ زارنا فلان فأي رجل هو، وإن زارنا فلان فأي يد له بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة، والمثال الذي ذكره وهو‏:‏ إن أتيتك ماذا تطعمني‏؟‏ هو من تمثيله، لا من كلام العرب‏.‏

وأما قوله‏:‏ ثم تتعلق الجملة بأرأيتم، إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني، وأخبرني تطلب متعلقاً مفعولاً، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني‏.‏ وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً فلا يصح أيضاً، لما ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاء الجواب‏.‏ وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها، فالجملة الاستفهامية معطوفة، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط‏.‏ وأيضاً فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة الشرط موقعه‏.‏

وتقدم الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏بياتاً‏}‏ في الأعراف مدلولاً وإعراباً‏.‏ والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون، مما بنوم وإما باشتغال بالمعاش والكسب، وهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏بغتة‏}‏ لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب، بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيئ لحلوله، وهذا كقوله تعالى‏:‏ بياتاً وهم نائمون ضحى وهم يلعبون‏.‏ ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره، وهو بمعنى الذي، ويستعجل صلته، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي‏:‏ شيء يستعجله من العذاب المجرمون‏.‏ ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولاً كأنه قيل‏:‏ أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون‏.‏ وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ، وخبره الجملة بعده‏.‏ وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ‏.‏ والظاهر عود الضمير في منه على العذاب، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الله تعالى‏.‏ والمجرمون هم المخاطبون في قوله‏:‏ أرأيتم إن أتاكم‏.‏ ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام، لأنّ من حق المجرم أنْ يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ، فكيف يستعجله‏؟‏ وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ وفي ‏{‏أولم يسيروا‏}‏ وتقدم الكلام على ذلك‏.‏ وخلاف الزمخشري للجماعة في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف‏.‏ وقال الطبري في قوله‏:‏ أثم بضم الثاء، أنّ معناه أهنالك قال‏:‏ وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى‏.‏ وما قاله الطبري من أنّ ثم هنا ليست للعطف دعوى، وأما قوله‏:‏ إن المعنى أهنالك، فالذي يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى، لا أنْ ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرّف‏:‏ أثم بفتح الثاء، وهذا يناسبه تفسير الطبري أهنالك‏.‏

وقرأ الجمهور آلآن على الاستفهام بالمد، وكذا آلآن وقد عصيت‏.‏ وقرأ طلحة والأعرج‏:‏ بهمزة الاستفهام بغير مد، وهو على إضمار القول أي‏:‏ قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به، فالناصب لقوله‏:‏ الآن هو آمنتم به، وهو محذوف‏.‏ قيل‏:‏ تقول لهم ذلك الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ الله، والاستفهام على طريق التوبيخ‏.‏ وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة‏:‏ آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام، بل على الخبر، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور‏.‏ وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى‏.‏ وقد كنتم جملة حالية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وقد كنتم به تستعجلون يعني تكذبون، لأن استعجالكم كان على جهة التكذيب والإنكار‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ تستعجلون مكذبين به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام‏.‏ والظلم ظلم الكفر لا ظلم المعصية، لأنّ من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخلد فيها‏.‏ وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن‏.‏ ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة، وهل تجزون توبيخ لهم وتوضيح أنّ الجزاء هو على كسب العبد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

أي يستخبرونك‏.‏ وأحق هو الضمير عائد على العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ على الشرع والقرآن‏.‏ وقيل‏:‏ على الوعيد، وقيل‏:‏ على أمر الساعة، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري‏:‏ بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ معناه يستخبرونك، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين‏:‏ أحدهما الكاف، والآخر في الابتداء، والخبر فعلى ما قال‏:‏ يكون يستنبئونك معلقة‏.‏ وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين‏:‏ أحدهما بعن، تقول‏:‏ استنبأت زيداً عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو، والظاهر أنها معلقة عن المفعول الثاني‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقيل هي بمعنى يستعلمونك‏.‏ قال‏:‏ فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة‏:‏ أحدها الكاف، والابتداء، والخبر سد مسد المفعولين انتهى‏.‏ وليس كما ذكر، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة، لا يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أنْ تتعدى إلى ثلاثة، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا‏.‏ وارتفع هو على أنه مبتدأ، وحق خبره‏.‏ وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعل به سد مسد الخبر، وحق ليس اسم فاعل ولا مفعول، وإنما هو مصدر في الأصل، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت‏.‏ وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ الحق‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل، وذلك أن اللام للجنس، فكأنه قيل‏:‏ أهو الحق لا الباطل، أو أهو الذي سميتموه الحق‏؟‏ انتهى‏.‏ وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيباً لهم‏:‏ قل إي وربي، أي نعم وربي‏.‏ وإي تستعمل في القسم خاصة، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة‏.‏ قال معناه الزمخشري قال‏:‏ وسمعتهم يقولون في التصديق أي و، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى‏.‏ ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هي لفظة تتقدّم القسم، وهي بمعنى نعم، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء، تقول‏:‏ أي ربي أي وربي انتهى‏.‏ وقد كان يكتفي في الجواب بقوله‏:‏ إي وربي، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله‏:‏ إي وربي، مسوقة مؤكدة بأنّ‏.‏ واللام مبالغة في التوكيد في الجواب، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب، وكان سؤالاً عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع‏.‏ قيل‏:‏ وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه، بل هو لاحق بكم‏.‏ واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم، فتكون معطوفة على الجواب قبلها‏.‏ واحتمل أن تكون إخباراً، معطوفاً على الجملة المقولة لا على جواب القسم‏.‏ وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال‏:‏ ولن نعجزه هرباً، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب‏:‏ أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه، وقال الزجاج‏:‏ أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم‏.‏